أحدث المواضيع

​جيوسياسية الجفاف: كيف يعيد المناخ رسم خرائط الصراع والتحالفات في الشرق الأوسط وأفريقيا

 ​جيوسياسية الجفاف: كيف يعيد المناخ رسم خرائط الصراع والتحالفات في الشرق الأوسط وأفريقيا 

​جيوسياسية الجفاف: كيف يعيد المناخ رسم خرائط الصراع والتحالفات في الشرق الأوسط وأفريقيا

بقلم / حمادة ربيع أبو أذدحمد 

لم تعد أزمة المناخ مجرد إنذار بيئي مستقبلي يُهدد أجيالاً قادمة، بل تحولت إلى قوة تاريخية حاسمة تعصف بالاستقرار القائم وتُعيد صياغة الجغرافيا السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط وأفريقيا؛ فالأمن المائي والغذائي أصبح اليوم هو الأمن القومي الجديد، ليتحول النهر والأرض القاحلة من مجرد مورد إلى محرك رئيسي للصراع والتحالفات في القرن الحادي والعشرين. 


​المتن الأول:  "جيوسياسية الأنهار": أزمة النيل كمرآة 

​يُمثّل الصراع على نهر النيل، متمثلاً في أزمة سد النهضة الإثيوبي، المثال الأبرز على تحول المناخ إلى محفز للصراع الإقليمي. تاريخياً، كان النيل شرياناً يوحد الحضارات، لكن تغير أنماط هطول الأمطار وزيادة النمو السكاني حوّله إلى قضية أمن قومي وجودية. تسعى إثيوبيا، مدعومة بحقها في التنمية واستغلال مواردها المائية، إلى ملء وتشغيل السد، وهو ما تراه دول المصب (مصر والسودان) تهديداً صريحاً لحصصها المكتسبة. الأزمة تتجاوز الكميات الهيدرولوجية، لتصبح نزاعاً حول السيادة المائية وإعادة توزيع إرث النهر التاريخي. هذه الديناميكية ليست فريدة: ففي حوض دجلة والفرات، أدت السدود التركية وتقليل تدفق المياه إلى تفاقم الجفاف في العراق وسوريا، مما زاد من الهشاشة الداخلية وساهم في تأجيج الصراعات المحلية. هذه النماذج تؤكد أن السيطرة على مصادر المياه العابرة للحدود هي الاستراتيجية الجيوسياسية الجديدة في المنطقة. 

​المتن الثاني: التصحر والنزوح: صناعة "لاجئي المناخ" 

​إن ندرة المياه التي رأيناها في حوض النيل تؤدي إلى ظاهرة أعمق وأكثر تدميراً: الهجرة القسرية. ففي منطقة الساحل الإفريقي، أدى انكماش بحيرة تشاد وتدهور الأراضي الزراعية إلى انهيار سُبل العيش التقليدية، ما خلق طبقة جديدة من "لاجئي المناخ". هذا الفشل البيئي أجبر ملايين البشر على النزوح الداخلي والخارجي، ما يفتح الباب أمام النزاعات العرقية بين المزارعين والرعاة المتنافسين على الأراضي القليلة الصالحة للاستغلال. الأخطر هو أن هذه البيئة الهشة والممزقة اجتماعياً أصبحت تربة خصبة لتجنيد الجماعات المتطرفة المسلحة، التي تستغل اليأس الاقتصادي والهشاشة الحكومية. وفي الشرق الأوسط، يهدد ارتفاع منسوب سطح البحر دلتا الأنهار، مما يزيد من موجات الهجرة الداخلية، ويحول الأمن المناخي إلى تحدٍ أمني-اجتماعي داخلي. 

​المتن الثالث: المناخ كأداة للقوة (التحالفات الجديدة) 

​لم يعد التحدي المناخي مجرد مشكلة محلية، بل أصبح أداة قوية للنفوذ الجيوسياسي. تستغل القوى الإقليمية والدولية (مثل الصين وتركيا ودول الخليج) ندرة الموارد لدعم مشاريع البنية التحتية الكبرى، وبذلك تضمن ولاءً استراتيجياً. فـ السيطرة على مصادر الطاقة والمياه تعني السيطرة على القرار السياسي. يتحول الدعم المالي والتقني لمشاريع التكيف المناخي إلى "شيكات نفوذ" تُمنح للدول، مما يرسخ الانقسامات ويخلق تحالفات جديدة مبنية على "التبعية المائية والغذائية" بدلاً من الأيديولوجيا، مانحاً القوة لمن يتحكم في تدفق الحياة. 


​المتن الرابع: التفكك الاجتماعي: العقد الحضري الريفي 

​تزيد أزمة المناخ من حدة التفاوت الاجتماعي داخل الدول. يعاني الريف، وهو عصب الإنتاج الزراعي والحيواني، من الجفاف والتصحر، بينما تحتكر المراكز الحضرية القليلة الموارد والخدمات والبنية التحتية. هذا التباين يخلق صدعاً اجتماعياً عميقاً بين فئة "الناجين في المدن" و "الضحايا في الأرياف". يُترجم هذا التفكك إلى نزاعات عرقية وطبقية تتفاقم على الأراضي الشحيحة والمراعي، كما يؤدي فشل الحكومات في حماية سُبل عيش الفلاحين والرعاة من آثار المناخ إلى فقدان الشرعية، مما يمهد الطريق للاضطرابات المدنية وعدم الاستقرار السياسي طويل الأمد. 


​الخاتمة: التعاون أم الانهيار؟ مستقبل المنطقتين 

​لقد أثبت التحليل أن أزمة المناخ لم تعد قضية بيئية هامشية، بل هي قوة تاريخية تُعيد صياغة الجغرافيا السياسية والاجتماعية للشرق الأوسط وأفريقيا. من نزاع النيل على السيادة المائية إلى هجرة لاجئي المناخ في الساحل، تُشير جميع الدلائل إلى أن الأمن المائي والغذائي هو مفتاح الاستقرار. 


​المسؤولية الأخلاقية وغياب عدالة المناخ: لا يمكن التعامل مع صراعات الشرق الأوسط وأفريقيا بمعزل عن المسؤولية التاريخية والأخلاقية للدول الصناعية الكبرى، فهي التي ساهمت بالقدر الأكبر في الانبعاثات الكربونية التي دفعت المنطقة إلى حافة الهاوية. إن المطالبة بـ "عدالة المناخ" ليست مجرد شعار، بل هي ضرورة وجودية؛ فالنظام العالمي مطالب بضخ استثمارات ضخمة في مشاريع التكيف والبنية التحتية الخضراء، بدلاً من ترك الدول الأكثر هشاشة تدفع ثمن أزمة لم تتسبب فيها. إن غياب هذا التمويل العادل يؤدي إلى تفاقم الأزمات الإنسانية، ويجعل التعاون الإقليمي أمنية بعيدة المنال. 

​المستقبل يقف على مفترق طرق: إما أن تتبنى دول القارتين دبلوماسية تعاونية شاملة تُركز على إدارة الموارد المشتركة والعدالة المناخية، أو تواجه انهياراً جيوسياسياً واسع النطاق لن يترك حدوداً ولا مجتمعاً آمناً.

إرسال تعليق

لا يسمح بالتعليقات الجديدة.*

أحدث أقدم